قليلة جدا تلك الكتب التي تأسر أرواحنا وتسحر ألبابنا وتشحذ عقولنا على التفكير العميق، وإحداها " مذكرات الأرقش " .. الذي -لحسن الحظ- كان بعكس توقعاتي عنه.
فمنذ الانتهاء من التوطئة، شعرت وكأن خيطًا سحريًا يشدني للكتاب. ومع كل صفحة كنت أكتشف شيئا جديدًا وكنزًا نفسيًا ككنوز الحكايات والأساطير .. الأرقش، هو ذلك الشاب ذو الوجه المجدور، الصامت دومًا. الذي يعمل في مقهى عربي في نيويورك. الذي توحي هيئته بمدى وضاعة شأنه، لكن لا أحد على وجه الأرض يعلم ما يعتلج بصدر هذا الأرقش من مشاعر، وكم يجيش بصدره من خواطر وتأملات، وكم هي شفافة روحه، وكم هي واسعة مدارکه. وهنا كنت أتذكر قول الإمام علي :
وتحسب أنك جرم صغير
وفيك انطوى العالم الأكبر
نعم ، لقد كان الأرقش عالما كاملا في صورة إنسان. اختار الصمت الأبدي على الكلام. اختار التوحد في روح العالم الكلي على الاندماج في حياة البشر ومشكلاتهم التافهة. شخصا استطاع الولوج إلى أعمق أعماق النفس البشرية، واستطاع أن يسمو وينأى عن كل الصغائر. قد يكون ما قربني من شخصية الأرقش وجعلني أحبها أكثر، هو أن ميخائيل نعيمة يتكلم بلسان الأرقش، حتى يمكنني القول أن الأرقش هو الوجه الآخر لنعيمة، فيبين لنا نظرته إلى الحياة وأمورها على لسان هذه الشخصية العجيبة. ويدل هذا على تمكن الكاتب ومدى خبرته وثقافته وعمق نظرته وتصوراته، وبأسلوب سردي ولغوي مبهر ومتماسك وأخاذ استطاع أن يقدم للأدب العربي الحديث نفيسة من النفائس التي تعيد للإنسان إنسانيته وتخلد اسم كاتبها.
_ مراجعة : ريما ريما.